مهرجان بغداد الدولي للمسرح، وعبق الذاكرة …/ حسن خيون

في أثناء فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح، كان اللقاءُ استثنائيًا، مثقلاً برائحة الذكريات وشغفِ المسرح. لكن بغداد ليست كما كانت ؛ تغيّرت ألوانُها، وارتسمت على ملامحها قصصُ السنين. حضوري هنا، كضيفٍ، لم يكن مجردَ تلبيةٍ لدعوةٍ فنيّةٍ، بل كان استجابةً لنداءِ الجذور، وانغماساً في فضاءٍ يُعيد الروح إلى تلك العلاقةِ الأبديةِ مع أرضٍ علّمتنا معنى العطاء.

ثمانيةَ عشرَ عامًا مضت دون أن أعود إلى بغداد من بوّابةِ المسرح. سنواتٌ عشتُ خلالها تجربةَ العمل المسرحيّ والدراسةِ والحياةِ في بلجيكا، دون أن أُغادرَ المسرح يوماً واحداً. لكنّ العودةَ تعني لي الوقوفَ مجدداً في فضاءاتٍ أحببتُها. شعرتُ وكأن الزمنَ انطوى ليعيدني إلى أروقةِ المسارح التي تعلّمتُ فيها كيف يكون المسرحُ حياةً، وكيف لك أن تسمعَ أصواتَ الفنانين وملامحَ الخشبات، والتي تغيّرت ملامحُها اليوم، وفقدت بعضاً من عبقِها القديم، لكنها حافظت على صداها.

كان مسرحُ الرشيد، على وجه التحديد، شاهداً على عظمةِ المسرحِ العراقيّ وإبداعاته الخالدة. هذا الصرحُ الفنيُّ الذي دُمّر وسُلب في أحداث عام 2003 يمثّل جرحاً عميقاً في ذاكرةِ كلِّ عاشقٍ للمسرح. ومع ذلك، فإن هذا الجرحَ ليس سوى دليلٍ آخر على عنادِ الفنّ العراقيّ في مواجهةِ الخراب، واستمراره كمرآةٍ تنبض بروح الحياةِ العراقيّة، تلك الروحِ التي ترفض الانكسار.

 

نبضُ المسرحِ العراقي ومستقبلُ الأجيالِ الجديدة

ورغم تبدّلِ الإيقاعات وتغيّرِ الظروف، فإن المشهدَ المسرحيَّ العراقيَّ ما زال يحمل في جوهرِه نبضاً حيًّا وروحاً عصيّةً على الفناء. أجيالٌ جديدةٌ ظهرت، تنبضُ بالحماس، وتسعى لبناءِ مسرحٍ يعكس تطلعاتِها وأحلامَها. عروضٌ تتحدى التابوهاتِ وتتجاوزُ سلطةَ المحرَّمِ والمسكوتِ عنه، وتطرح همومَ البيتِ والعائلةِ وما خلفَ الجدرانِ العالية. ورغم التحديات، لمستُ شغفاً متجدداً لدى هؤلاءِ الشباب الذين يضخّون حياةً جديدةً في شرايينِ المسرح. رغم ذلك، يحتاجُ هذا الجيلُ إلى التوجيهِ والإشراكِ الفعليِّ في العملِ المسرحيِّ، ليصبحَ أكثرَ قرباً من جوهرِ المسرحِ كفنٍّ مقدس يحمل رسالةً أكبر من مجردِ الترفيه.

 

العودة إلى بغداد: حضورٌ وشغفٌ متجدِّد

لم يكن حضوري في المهرجان مجرد عودة إلى المدينة، بل كان فرصة لتجديد العهد مع الانتماء العميق. في بغداد، شعرتُ أن كل خطوة تأخذني إلى جذورٍ محفورة في الذاكرة. الحقيقة، لم أكن أطمح إلى حضورٍ رمزيٍّ لمجرد الحضور، بل كنتُ أرغب في المساهمة بشكلٍ فاعل من خلال ورش عمل مسرحية تستهدف الطاقات الواعدة التي تسعى لتعلم الجديد وتطوير مهاراتها. فالحضور بلا هدف لا يترك أثراً مستداماً، بينما الورش والنقاشات تمثل أدوات عملية لتطوير المشهد المسرحي وتعزيز الحوار بين الأجيال المختلفة. نأمل أن تأخذ إدارة المهرجان هذا الجانب بعين الاعتبار.

 

المسرحُ في بغداد: فضاءٌ للحوارِ والإبداع

وبشكلٍ عام، أعتقدُ أن المهرجاناتِ المسرحيةَ ليست مجردَ منصّاتٍ للاحتفاءِ أو التظاهر؛ إنها فضاءاتٌ لصقلِ المهاراتِ، وتبادلِ الأفكار، وتوليدِ مشاريعَ جديدةٍ تُعيد تعريفَ المشهدِ الفني. من هذا المنطلق، كان مهرجانُ بغداد الدولي للمسرح شاهداً على تحدٍّ كبير، حيث نجحتِ الإدارةُ المنظمة، وضمن سقفِ المعطياتِ الراهنة، في تحويلهِ إلى حدثٍ مسرحيٍّ عراقيٍّ مهمٍّ رغم كلِّ الصعوباتِ الإقليمية.

أما جمهورُ بغداد، فهو قصةٌ بحدِّ ذاته. جمهورٌ متنوّع، مزيجٌ من النخبةِ والعامة، من الطلبةِ والشبابِ المتعطّشين للمعرفة. هؤلاءِ يُشكّلون الأساسَ الذي يضمنُ استمرارَ نبضِ المسرحِ العراقي. ومع ذلك، لفتَ نظري انتشارُ ظاهرةِ “التصفيقِ العشوائيِّ”، والذي لا يعكسُ عُمقاً في فهم العرضِ المسرحي. هذا السلوكُ، الذي يتكررُ بشكلٍ ملحوظ، يحتاجُ إلى معالجةٍ عبر ورشٍ تُعنى بـ”ثقافةِ تذوّق العرضِ المسرحي”، تماماً كما تُدرسُ مادةُ التذوّقِ الموسيقي. لأن مشاهدةَ العرضِ المسرحيِّ طقسٌ مقدّسٌ يتطلب تأملاً واحتراماً.

 

بغداد والمسرح: إبداعٌ يتحدى الزمن

وعلى الرغمِ مما عانته بغدادُ من تغيّراتٍ وظروفٍ قاسية، يبقى المسرحُ فيها رمزاً للإبداعِ الذي يرفضُ الموت. إنه مساحةٌ تُولدُ من تحتِ الأنقاض، منصةٌ للأمل، وصوتٌ يحملُ همومَ الناسِ وأحلامَهم. لقد كان المهرجانُ فرصةً لإعادةِ بناءِ الجسورِ بين الماضي والحاضر، وإثباتِ أن الفنَّ يمكن أن يكون لغةً للسلامِ والحوارِ حتى في أصعبِ الظروف.

ختامًا، تحيةٌ للإدارةِ المنظمةِ التي حوّلت هذا المهرجانَ إلى حدثٍ احتلَّ تاريخاً جديداً في أجندةِ الذاكرة، عكس عنادَ المسرحيينَ العراقيينَ في مواجهةِ التحديات. مهرجانُ بغداد الدولي للمسرح ليس مجردَ حدثٍ فنيٍّ؛ إنه شهادةٌ على أن بغدادَ ستبقى دائماً منارةً للإبداعِ ومصدراً للإلهام.

 

**  حسن خيون/ مخرجٌ مسرحيٌّ معاصر (18 ديسمبر 2024)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت