“ماكبث المصنع”… ماكبث يفتح أبواب مصنعه: رحلة داخل آلة الطموح/ ياسر أسلم

على خشبة مسرح العرفان، وبأجواء المصنع الحديث وصخبه المتسارع، قدمت الفرقة المصرية رؤيتها المختلفة لرائعة شكسبير ‘ماكبث’. اختار المخرج محمود الحسيني أن ينقل النص من أجواء المآسي الكلاسيكية إلى عالم تحكمه الآلات والتروس، حيث تتشابك أسئلة الطموح والجشع مع صراع الإنسان أمام سطوة التكنولوجيا، مانحًا العرض بُعدًا فلسفيًا يعكس قضايا عصرنا الحالي.

تدور أحداث المسرحية في مصنع كبير تحكمه الآلات، حيث يتقمص “هو” شخصية ماكبث، الشاب الطموح الذي يعمل عامل سير بسيط في المصنع. يعيش “هو” حياة مليئة بالصراعات النفسية والضغوط الاجتماعية، متأثرًا بذكريات والده الصارمة وعمه الذي يدير المصنع بحزم.

يدخل “هو” في صراع داخلي عميق بين طموحه الكبير ومسؤولياته المحدودة. يظهر البرنامج الذكي “مدركة” كبديل عصري للساحرات الثلاث في النص الأصلي، لتمنحه نبؤات حول مستقبله المظلم إذا استسلم لطموحه بلا ضوابط. تحرضه “مدركة” على تجاوز عمه وقتله في حادث مدبّر ليصبح المدير الأول للمصنع، ما يدفعه إلى السير في طريق لا رجعة فيه.

تسانده زوجته “هي”، التي تقوده في البداية نحو القتل، لكنها سرعان ما تنهار تحت وطأة الشعور بالذنب، لتعيش في عزلة نفسية مطلقة. بينما يبدأ “هو” في فقدان سيطرته على نفسه، يتحول إلى آلة بشرية يتحكم فيها طموحه الجامح، ويدفع الثمن بفقدان إنسانيته وعلاقاته بمن حوله.

في النهاية، ينهار المصنع مع توقف آلاته عن العمل، ليتحول حلم “هو” في الصعود إلى كابوس يطارده حتى اللحظة الأخيرة، حيث يحرق نفسه في مشهد مأساوي يعكس انهيار طموحه.

يُبرز نص العرض صراع الإنسان مع التكنولوجيا، وتأثير الطموح المفرط على النفس والمجتمع، مما يعيد صياغة مأساة “ماكبث” في قالب عصري مليء بالرمزية والدلالات.

منذ اللحظة الأولى، يأخذك العرض إلى عالم ميكانيكي صارم لا يعرف التوقف. جسّد الممثلون شخصياتهم كأنهم آلات تكرر نفس الحركات ثلاث مرات، في دائرة مغلقة من الروتين. كان أداء الأجساد دقيقًا للغاية، يوحي بالانضباط القسري وكأنها خاضعة لقواعد لا يمكن كسرها. أضفى هذا الأداء إحساسًا واضحًا بالقمع والرتابة. اكتملت هذه الصورة بموسيقى مدروسة وإضاءة عكست أجواءً خانقة، ورغم جودتها في تعزيز المشهد، إلا أنها أزعجت العين أحيانًا، وكأنها رسالة مقصودة تعكس عنف العالم المحيط وعدم تسامحه مع الخطأ أو التوقف.

“هو” (ماكبث)، الذي جسده الممثل الرئيسي، قاد الجمهور في رحلة عبر تحولات درامية معقدة. بدأ كشاب طموح يسعى لتحقيق المجد، ثم انكسر جسديًا ونفسيًا بعد حادث مأساوي أفقده رجله، لينتهي كرجل مجنون يحاول السيطرة على كل شيء من خلال الوهم. الأداء كان متزنًا، حيث عبّر الممثل عن هذه التحولات الجسدية والعاطفية بعمق، خاصة في مشاهده مع برنامج الذكاء الاصطناعي “مدركة”، الذي مثّل صوت الإغراء والصراع الداخلي بطريقة أثارت التوتر.

“هي” (زوجة ماكبث) كانت إحدى الركائز الدرامية القوية في العرض. بدأت كزوجة داعمة، تساند “هو” في طموحه، لكنها سرعان ما غاصت في عالم الكوابيس والهواجس. مشهد غسل يديها في الحمام، باستخدام ماء المرحاض، كان لحظة محورية مليئة بالرمزية؛ محاولة يائسة للتطهر من الذنب الذي يطاردها، لكن الكوابيس تبقيها محاصرة داخله. الأداء كان عاطفيًا ومؤلمًا، خاصة في اللحظات التي عكست فيها صراعها الداخلي مع الذكريات القاتمة التي لا تفارقها.

ولا يمكن إغفال الشخصيات الأخرى التي أضافت ثقلًا دراميًا للعرض، مثل “العم” الذي جسد السلطة والتقاليد بحضور قوي، و”الرجل” الصديق الذي كشف بمهارة عن تدهور ماكبث النفسي، و”المرأة” التي مثّلت الطموح الخفي بصراعاته، و”الابن” الذي رغم قلة ظهوره كان الأصدق في التعبير والأكثر تأثيرًا بتمثيله الصادق للأمل الضائع. كل شخصية أسهمت في رسم التوازن الدقيق بين الطموح الفوضوي والقوانين الصارمة، مما جعل ديناميكية الشخصيات تنسجم مع فكرة المصنع كتروس تعمل بتداخل معقد وصراعات مستمرة.

كان استخدام الشاشة الرئيسية في منتصف المسرح خيارًا مواكبًا لأجواء المصنع، خاصة في مشاهد حديث ماكبث مع “مدركة”، حيث جسّدت الصراع الداخلي بطريقة بصرية مكثفة. ومع أن الشاشات الجانبية لم تعمل بسبب مشكلات تقنية أدت إلى تأخير العرض قرابة الساعة، إلا أن الشاشة الرئيسية وحدها كانت كافية لنقل الفكرة بفعالية. ربما لو ركز المخرج عليها فقط، لتم تجنب هذا العائق. ومع ذلك، نجح في استغلالها كمحور أساسي للعمل، حيث أصبحت نافذة تعكس أبعاد الشخصيات النفسية، وصولًا إلى مشهد النهاية الذي جسد انتحار ماكبث بحرق نفسه عبر عرض الحريق باستخدام الشاشة والإضاءة، ما أضفى بُعدًا بصريًا جميلًا.

رغم أن الديكور كان ضخمًا وجميلًا، إلا أنه أحيانًا شكل عائقًا لحركة الممثلين على الخشبة. ربما لو اكتفى المخرج باستخدام الكراتين التي ترمز إلى إنتاج المصنع والسير الذي يحملها، لكانت النتيجة أكثر انسيابية وملاءمة للعرض، خاصة أن هذا الخيار كان سيعكس أجواء المصنع بشكل عملي دون الحاجة إلى الاعتماد الكلي على الديكور الضخم الذي بدا جامدًا ومجرد خلفية. أما السرير المتنقل الذي مثّل غرفة النوم، فقد كان إضافة فعالة، كما أن الحمام المصبوغ بالأبيض والخالي من المرايا كان رؤية فنية ذكية، عكست كيف يمكن للتكنولوجيا أن تسلب الإنسان رؤية ملامحه وحقيقته.

تميز النص بحواراته التي مزجت بين الفصحى واللهجة المصرية، مما أضفى عليه طابعًا واقعيًا وسهل التلقي للجمهور. أما الحوار الخاص ب”مدركة”، فقد كُتب باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو اختيار ذكي يثير تساؤلات وجودية حول دور التكنولوجيا في تقديم الدعم أو تزييف الحقيقة. من خلال هذا التقديم، أصبحت “مدركة” تجسيدًا للقوة الخفية التي تدفع الإنسان لاتخاذ قرارات جذرية وخطيرة، بينما تُغلف أفعاله بمبررات مُضللة تُقنعه بأنه على صواب، مهما بلغ حجم الجرم الذي يرتكبه.

ما بين ظهور العم الميت في لحظات مفاجئة ودخوله في صراعات ماكبث الداخلية، وارتباط الشاشة بالحياة اليومية للشخصيات، كان الجمهور يعيش تجربة عاطفية متقلبة. لحظة اعتراف زوجة ماكبث بحملها بعد خمس سنوات من الحزن للجمهور، ثم خنقها على يد ماكبث أمام أعينهم، كانت واحدة من اللحظات المؤثرة في العرض، حيث تحول المشهد إلى مأساة حقيقية تتفجر عبر الشاشة والضوء.

كان الانهيار النفسي والفعلي لماكبث تتويجًا لقصة سوداوية تدور حول الطموح الذي يتحول إلى لعنة. مشهد الحريق الذي أنهى العرض استخدم الشاشة والإضاءة بذكاء ليترك الجمهور في حالة صدمة وتساؤل عميق: إلى أي مدى يمكن للطموح والجشع أن يدفع الإنسان لتدمير ذاته ومن حوله؟ وهل يمكن أن تصبح التكنولوجيا، ممثلة في الذكاء الاصطناعي، قوة مدمرة تُزيّف الحقيقة وتدفع الإنسان لاتخاذ أسوأ قراراته؟

“ماكبث المصنع” كان تجربة مسرحية مختلفة ومثيرة للتفكير. بين الإبداع الفني والتحديات التقنية، وبين الأداء التمثيلي والرؤية الإخراجية، نجح العرض في تقديم رؤية معاصرة تواكب العصر، لكنها تظل وفية لروح شكسبير العميقة. كان العمل بمثابة دعوة للتأمل في علاقتنا مع التكنولوجيا والطموح، وكيف يمكن لهما أن يصبحا قوة مدمرة إذا لم نكن على وعي بما يدفعاننا إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت