هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح ناقدا مسرحياً؟/ د. عماد هادي الخفاجي
لطالما كان النقد المسرحي أحد الأعمدة الأساسية التي تستند إليها العملية الإبداعية، فهو ليس مجرد تقييم تقني للعروض، بل عملية تأملية تشتبك مع النص والأداء والتلقي في آن واحد، وان الناقد المسرحي هو عين ثالثة بين المبدع والجمهور، يمارس فعل القراءة العميقة، ويعيد تفكيك العرض المسرحي ليكشف عن مستوياته الجمالية والفكرية والتقنية، لكن مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان تحليل النصوص، تصنيف الأنماط، ودراسة التفاعلات الجماهيرية من خلال خوارزميات متطورة، مما يفتح باب التساؤل الجريء: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح ناقدا مسرحيا؟
الذكاء الاصطناعي اليوم قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة تفوق الإدراك البشري، حيث يستطيع عبر تقنيات معالجة اللغة الطبيعية أن يقرأ آلاف النصوص المسرحية، يقارن بين الأنماط السردية، ويتعرف على البنى الدرامية المتكررة، ويمكنه أيضا من خلال التعلم العميق أن يدرس أداء الممثلين، عبر تحليل تعابير الوجه ونبرة الصوت والإيقاع الحركي، مما قد يسمح له بتقديم تقييم موضوعي لمستوى الأداء، بل إن بعض النماذج المتقدمة قادرة على مراقبة ردود فعل الجمهور أثناء العروض المسرحية، عبر قراءة التغيرات في لغة الجسد ومستوى التفاعل اللحظي، مما يمكن أن يساهم في تشكيل فهم أكثر دقة حول تأثير العرض على المتفرجين.
لكن رغم كل هذه الإمكانيات، يظل السؤال الأكثر إلحاحا هو: هل النقد المسرحي مجرد عملية تحليلية؟ أم أنه فعل إبداعي قائم بذاته؟
الناقد المسرحي لا يكتفي بوصف ما يراه على الخشبة، بل يؤول، يربط العرض بسياقاته التاريخية والاجتماعية، يستحضر مرجعيات ثقافية، ويطرح قراءات قد تتجاوز الهدف الاساسي للعمل الفني نفسه، نعم ان الذكاء الاصطناعي قد يكون قادرا على وصف بنية النصوص، لكنه لا يمتلك حساسية الناقد تجاه الانزياحات الدلالية أو التحولات الجمالية التي تطرأ على لغة العرض، لان النقد ليس مجرد مقارنة بين عناصر متكررة، بل هو عملية توليد للمعنى، والذكاء الاصطناعي حتى الآن لا يستطيع إنتاج معنى جديد خارج نطاق البيانات التي تدرب عليها، علاوة على ذلك، يعتمد النقد المسرحي على تجربة ذاتية للعرض، حيث يتفاعل الناقد مع الأداء في لحظته الآنية، ويتأثر بالمحيط، ويعيد تشكيل انطباعاته عبر طبقات من الوعي الذاتي، وان هذا الوعي غير القابل للبرمجة هو ما يمنح النقد المسرحي عمقه، حيث لا يمكن استبدال إحساس بشري بالدهشة أو الخيبة بمجرد حسابات رياضية تحدد جودة العرض بناءً على معايير جامدة، فضلا على ان الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الحدس الذي يجعل الناقد قادرا على اكتشاف لحظات مسرحية استثنائية لم يكن متوقعا أن تحدث، كما يفتقر إلى القدرة على المجاز والتأويل التي تسمح للنقد بأن يكون فعلا ثقافيا وليس مجرد تقرير تقني.
لكن رغم هذه الفجوات، لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي قد يشكل أداة مساعدة قوية للنقاد المسرحيين، حيث يمكن توظيفه في تحليل الاتجاهات المسرحية عبر العقود، دراسة الاستجابات الجماهيرية على نطاق واسع، أو حتى تقديم قراءات أولية لمسرحيات جديدة بناءً على مقارنات مع أعمال سابقة، غير ان السؤال الأكثر عمقا يظل قائما: هل يمكن أن يأتي يوم يصبح فيه القارئ أكثر ميلا لقراءة ومراجعة نقدية صاغها الذكاء الاصطناعي بدلا من مقال كتبه ناقد بشري؟ ربما قد يحدث ذلك في مجالات تعتمد على التحليل البارد للأرقام والبيانات، كما في تقييم الأداء الاقتصادي للأعمال السينمائية أو الإحصاءات المتعلقة بتفاعل الجمهور مع العروض، لكن المسرح ليس مجرد مُنتج يمكن قياس نجاحه عبر معادلات رقمية، بل هو تجربة حسية متكاملة، فضاء تتقاطع فيه الفلسفة مع الجماليات، ويشتبك فيه الإنسان مع أسئلته الوجودية الأعمق.
اذن بعد هذا يمكن القول بان النقد المسرحي ليس مجرد وصف محايد لما يحدث على الخشبة، بل هو إعادة تأويل، قراءة ثانية للنص والعرض والحركة والفراغ….الخ، وهو فعل ثقافي لا ينفصل عن تراكم التجربة الإنسانية، وإن قيمة النقد الحقيقي لا تكمن في كونه تقريرا يصف جودة الأداء أو يقيّم بنية النصوص وفقا لأنماط محفوظة، بل في قدرته على اقتراح رؤى جديدة، على إثارة التساؤلات، وعلى إعادة صياغة العلاقة بين العرض والجمهور والتاريخ، وانه على الرغم من ازدياد اعتماد البشر على الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحليل، سيظل هناك فارق جوهري بين آلة تحلل الأنماط وناقد يمتلك وعيا متجذرا في خبرته وثقافته وحساسيته الشخصية، نعم الآلة قد تتمكن من تقديم قراءة منظمة، لكنها لن تمتلك تلك اللحظة السحرية التي يكتشف فيها ناقد بشري بعد مشاهدته لعرض معين، أن المسرح قد فتح له أفقا جديدا للفكر، أو كشف له عن جانب مخفي من ذاته. اذن فالنقد المسرحي، في جوهره، ليس فقط عملية تحليل، بل هو ممارسة إنسانية متفردة، تشبه المسرح نفسه في كونها فعلا حيا نابضا بالتأمل والانفعال وإعادة الخلق، ومهما بلغ الذكاء الاصطناعي من تطور، ستظل هناك حاجة دائمة لتلك العين البشرية القادرة على رؤية ما وراء النص، وما وراء الصورة، وما وراء ما يمكن للآلة أن تستوعبه.
عن: جريدة الصباح العراقية (الأربعاء 5 فبراير/ شباط 2025 العدد: 6101