العرض المسرحي (طوق).. عندما تكون في قبضة الزمن/ عبد الله العطية
عند دخولك المسرح، لتتفرج على عمل درامي، فأول ما يتبادر إلى ذهنك ذلك الفضاء المسرحي، تحدق في اللوحة الفنية الماثلة أمامك، فتحاول أن تأول ما سيحدث لاحقًا على الخشبة، ترسم في مخيلتك أحداثًا لا تمت إلى العمل المسرحي بصلة، إلا أنك تتأمل اللوحة، وصدى العنوان يتردد في خاطرك، فتلجأ إلى الربط بينهما مراعيًا كل عناصر العرض، ومدى ما يحمله المسرح من إمكانيات في الإضاءة والصوت، وتلك العناصر المادية تخضع تحت طوع المخرج المسرحي، فكلما كان المسرح ذا كفاءة عالية، كان من السهل على المخرج توظيف العناصر والأدوات للخروج بأفضل عرض من خلال اختبارها في مرحلة البروفة، وترجمة النص لحركة مرئية تستميل المتفرج ويتفاعل معها بمشاعره وأحاسيسه.
على خشبة مسرح جميعة الثقافة والفنون بالأحساء، عرضت مسرحية (طوق)، بإخراج الأستاذ فهد الدوسري، وتدور أحداثها حول إشكالية وجودية تتمثل في فلسفة الزمن، وهي الفكرة الأساسية التي قدمها الكاتب الأستاذ أحمد حمضة، إذ يتصاعد الصراع بامتياز في ظل القيود العصية على الكسر والتي تجعل الإنسان محكومًا تحت سطوة الوقت، مما يمنح المشهد أبعادًا فلسفية قادرة على مناقشة القضايا الاجتماعية التي تصب في مصلحة الإنسان، وتدفعه إلى تغيير مبادئه القائمة على التكرار الممل، وتضع أمامه مسؤولية تنمية وتطوير ذاته، لكسب حياة معيشية تتسم بالمثالية المفعمة بالسعادة.
أما الأفكار الثانوية تتمثل في تضاد وجهات النظر التي تتخللها أحداث المسرحية، حيث تكشف عن تباين الطبقات الاجتماعية، الطبقة المخملية، والطبقة البسيطة، الإعجاب والغيرة، فكرة الزواج من عدمه، ومظاهر الانفتاح والمحافظة مما يجعلنا أمام قضايا معاصرة يحاول العرض استعراضها، ومعالجتها.
تفتح الأضواء على ساعة معلقة في وسط الحائط، تتحرك عندما يخرج منها المدير ذو الشخصية المتسلطة، فيما يوجد خمسة مكاتب لمشرف القسم، واثنين من زملائه يجلسان على اليسار، وزميلتين تجلسان على اليمين، ويتوسطهم المشرف، فتجري الأحداث في مؤسسة يسعى فيها المدير إلى فرض سلطته القوية على جميع الموظفين معارضًا فكرتهم في التغيير، وكسر القيود المفروضة عليهم، فيما يجد مشرف القسم، والموظفون الأربعة أنفسهم عالقين في هذا المكان الذي يكبل طموحاتهم الكبيرة، فيعارضون فكرة المشرف -القائمة على مبدأ التغيير- خوفًا من انقطاع رزقهم في ظل الديون والمسؤوليات المتراكمة عليهم، مما يضع الجمهور أمام صراع مباشر ومحتدم، فيسعى المشرف إلى إقناعهم بكسر حاجز الوقت المتكرر في رسالة تفيد بأن الحياة عبارة عن مشهد مسرحي يتكرر كل يوم بالرتابة نفسها، ويدعو الجميع إلى التخلص من هذه الكآبة بالتغيير، مما يوحي إلى أن الوقت لا يتقدم إلا إذا حظي الإنسان على تحقيق أحلامه، وكسب طموحاته، ولا يتحقق ذلك إلا إذا تغير تكرار الأشياء المحيطة بالإنسان في حياته اليومية، تكرار المشاكل، والأخطاء، وكل تفاصيل الحياة الرتيبة، ولذلك عمد الكاتب إلى تكرار المشاهد الثلاثة الأولى بالأحداث نفسها من أجل إقناع الشخصيات بما يرمي إليه من جهة، وإقناع الجمهور بفكرته المقدمة على لسان الشخصيات من جهة أخرى، الأمر الذي جعله يلجأ إلى كسر الجدار الرابع في فعل درامي مدهش، وذلك في المشهد الرابع، حينما يتوجه إلى الجمهور متسائلًا عن شعورهم بالملل في ظل تكرار المشاهد، وكيف لم يدفعهم إلى اتخاذ قرار الخروج من المسرح!، وهذا السؤال يفتح على المتفرج الكثير من الأسئلة التي ينبغي أن يتأملها، ويتفكر فيها من أجل تنمية حياته على اعتبار أن رتابة الحياة هي مشكلة الإنسان في عصرنا الحاضر، ولا شك أن الرتابة المقصودة هنا هي تكرار الأشياء دون وعي صاحبها، أما التكرار الواعي المتمثل في المحاولة للوصول إلى النجاح فهو من صميم ما يرمي إليه العرض المسرحي الذي يرمز إلى إحداث التغيير والنمو.
ويتضمن المشهد الأخير مرحلة الحل حينما يلحظ المشرف مظاهر التغيير، ويلمس نجاح فكرته في حوار الشخصيات، مما يدعو إلى محاصرة المدير المتسلط، وإحاطته بالطاولات التي تأخذ شكلًا دائريًا تعبر عن الزمن، وبدورهم يتجهون إلى الساعة المعلقة في الحائط لإزاحتها في تعبير بصري درامي يوحي إلى كسر دائرة الزمن، والخروج من قيوده، وشهدت هذه اللحظة الدرامية إعجاب الجمهور، وكسبت تعاطفه في التخلص من طوق يقيد الإنسان، والإمساك بطوق النجاة، في نهاية مغلقة ذات بعد دلالي مقنع.
يلاحظ ارتفاع الساعة في الحائط وخروج المدير منها له دلالة التعالي، والتكبر، كذلك عندما يخرج صاحب الطبقة العليا ليرفض المتقدم للزواج، فهو في ارتفاع عن صاحب الطبقة البسيطة، والصراع المادي حاضر بقوة، إذ يتمثل في صفع المدير المتسلط من قبل مشرف القسم في صراعاته المباشرة، وكذلك إمساك الشخصية الغيورة للشخصية المعجبة من ياقتها في لحظة احتدام الصراع، أما الحبكة الدرامية المتمثلة في استخدام الهاتف، وتكرار المشاهد والربط بينهما، فإنها حققت وظائفها الدرامية، إذ إن التكرار جاء لوصف حالة الملل، فيما حملت المشاهد الأخيرة طابع الحجاج، والإقناع، والحل، وربما كان للإيقاع الموسيقى دور في إحداث الشعور بالملل، أما الإضاءة أسهمت في إبراز لوحة فنية جاذبة للمتلقي، وذلك في الإشارة إلى الوقت، والطاولات التي تتحول إلى سيارات في إحدى المشاهد عندما تتذكر إحدى الشخصيات حادثة تصادم السيارات في تمازج متقن بينها وبين الصوت، وتلك تقنية استرجاع متميزة، كما أن استخدام أجهزة الحاسب المضيئة شكلت لونًا إبداعيًّا في رسم الصورة العامة للعمل، والتعبير عنه، ولنا أن نشير إلى أن الحضور التراجيدي القوي النابع من الصراعات الداخلية تجعل من العمل الدرامي أكثر قوة وتأثير من الصراع المادي أو المعنوي، كونها تتكئ على مبدأ الإقناع، وإن تطلبت فكرة الرتابة غيابهما في أدوار الشخصيات.
ولنا أن نقول بأن هذه الفكرة المليئة بالدلالات الرمزية التي قدمها الكاتب تتفوق على الكثير من الأفكار التي تتقاطع معها، مثل: السفينة والغرق، الجسر والعبور، الملاجئ والنجاة، وغيرها، إذ يتحدث عن جدلية الزمن، بصفتها موضوعًا فلسفيًّا يستدعي حضوره في المسرح، ومناقشته، والرهان كان على قدرة الكاتب في استلهام موضوع فكريٍّ، وتقديمه بصورة قادرة على إيصال المعنى للمتلقي، إضافة إلى إجادة المخرج في تشكيل أسئلة فكرية تتلخص في إمكانية كسر دائرة الزمن من عدمه، ومدى استيعاب العقل لهذا الوعي، وكيفية تطبيقه، لأن الإنسان عندما يعيش في دائرة مفرغة مكبلة بأوجاع الماضي، وأعباء الحاضر، فإن ذلك يتطلب منه الانتقال إلى مستقبلٍ مليء بالهدوء والطمأنينة، ولا يحدث هذا الشعور إلا بالوعي، والإدراك، لأن “معاودة عيش الزمان الغابر معناه تعلمنا قلق الموت” غاستون باشلار – جدلية الزمن، وبناء عليه فإن مسرحية طوق ليست مجرد مشاهد عبثية مكررة بل هي عمل فني درامي مثقل بالإبداع والدهشة، يحمل في طياته رؤية عميقة تلح على التفكير، والتأمل.