الموجز العلمي للباحث المغربي د. سعيد كريمي حول ندوة "مئوية المسرح المغربي"/ متابعة: بشرى عمور

في إطار المؤتمر الفكري الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح، بالموازاة مع النسخة السابعة من مهرجان المسرح العربي الذي تحتضنه الرباط عاصمة المملكة المغربية مابين 10 و16 يناير 2015 انعقدت يوم الأحد 11 يناير ندوة “مئوية المسرح المغربي”، احتفاء بمرور قرن على ولادة أبي الفنون بالمغرب. وقد ترأس هذه الندوة الأستاذ عبد المجيد شاكر، وعرفت مشاركة كل من السادة الأساتذة: رشيد بناني، محمد القباج، عبد الواحد بن ياسر، يونس لوليدي، عز الدين بونيت، ومحمد مسعاية. بينما تكفل الأستاذ سعيد كريمي بحوصلتها العلمية.
عرفت الجلسة الأولى مشاركة الأستاذ رشيد بناني الذي حملت مداخلته عنوان: ” المسرح المغربي، إضاءات على زوايا منسية” ، حيث سعى إلى إنارة الزوايا التي يعتقد أنها قد بقيت معتمة، أو طالها الإهمال في تاريخ المسرح المغربي، مند العثمات الأولى لهذا الفن الوافد علينا في أوائل عشرينيات القرن الماضي، حتى لحظات نضجه المتعددة والمتلاحقة، وصولا إلى مراحل إبداعه وإشعاعه في الداخل والخارج فيما بعد.
وقد كان رشيد بناني ولا يزال في مشروعه القائم على النبش في تاريخ المسرح المغربي يحاول رصد الأحداث، وجمع الوثائق وتحقيق المعلومات، والتعرف على الأعمال والأسماء، وتقويم التجارب والإنجازات، ولم شتات الظواهر والقضايا الأدبية والفنية والاجتماعية المصاحبة لصيرورة المسرح المغربي مند بداياته، وتتبع بعض محطاته الأساسية التي أتيحت له فرصة التوقف عندها والتأمل في مكوناتها، وإشكالاتها وإنارة بعض زواياها التي بقيت مدة طويلة مغفلة، معتمدا في كل ذلك على ما يستطيع التوفر عليه، أو اكتشافه من الوثائق الأصلية، أو المعاصرة للأعمال التي يدرسها، والأوصاف الحية التي واكبتها. وهدفه من هذه البحوث هو المشاركة في إعادة الاعتبار إلى الدراسات المتعلقة بالثقافة الوطنية التي يعتقد أنها لم تأخذ لحد اليوم حظها الكافي من العناية العلمية الجادة والمفصلة، لاسيما في مكونها الدرامي؛ والمساهمة في إلقاء الأضواء الموضوعية الممكنة عليها، وتناولها بطريقة منظمة وهادئة، تتوخى الكشف عن الحقائق التي تنطق بها الوثائق وليس ترديد الأقوال التي تدور على ألسنة الناس.
في هذا الإطار، وقف عند الفنون التمثيلية في التراث الشعبي، مقدما فن (البساط) كنموذج، حيث يسبغ عدد من الباحثين الطابع السياسي على هذه الفرجة التقليدية الموروثة عندنا عن القرون السابقة، ولا يترددون في اختيار أحد المواضيع التي تعبر عنها لتعميمها على هذا الفن كله، ولذلك يقولون بأن فن (البساط) كان شكلا تمثيليا موظفا للنقد السياسي والشكوى ضد الظلم الاجتماعي والتنديد بجور الحاكمين. ويظهر أن فن (البساط) قد انحدر إلينا من ممارسات ثقافية شعبية مغرقة في القدم، اعتبرها عدد من الأنتروبولوجيين، تجميعا لشظايا وقطع من آثار الاحتفالات الأمازيغية ثم العربية العتيقة، وأطلقوا عليها اسم (الكرنفال المغربي). ويبقى الفنان القدير الطيب الصديقي خير من وظف فرجة البساط في المسرح المغربي.
أما المحور الثاني الذي تناوله الأستاذ رشيد بناني فهو القيمة الفنية لمسرح ما قبل الاستقلال حيث وقف عند البدايات الأولى لهذا المسرح بمدينة فاس،وتأثره بالرافدين العربي والغربي، قبل أن يؤكد بأن البداية الحقيقية للمسرح المغربي كانت مع فرقة المعمورة في بحر الخمسينيات من القرن الماضي، والتي أطرها المخرج الفرنسي المعروف جون فيلار، وشهدت تفتق عبقرية جيل المؤسسين من أمثال أحمد الطيب لعلج، والصديقي، والهاشي بن عمر، ومحمد الكغاط…وعرج الأستاذ بناني على الحركية الكبيرة للمسرح المغربي بمدينة فاس، مسلطا الضوء على مجموعة من الأسماء، والأعمال المغمورة التي شهدتها هذه المدينة، والتي قلما يشير إليها الباحثون، مقدما نموذجا بفرقة التمثيل العربي للإذاعة المغربية التي (التمثيل العربي للإذاعة المغربية) التي كان لها دور ريادي وتأسيسي للدراما الإذاعية، كما كان لها عطاء ناضج وغزير ومتواصل، أسهم بقدر وافر في نشر المسرح وتعميم محبته في كل ربوع البلاد؛ ومع كل ذلك لم تنل الفرقة حظها لحد اليوم من الذكر وتقويم المجهود. ومن المؤكد أن عبد الله شقرون كانت له أياد بيضاء على تطوير هذه الفرقة، وعلى المسرح المغربي والدراما الإذاعية.
وضمت الفرقة مند بدايتها أسماء مشهورة بمواهبها وعطائها الغزير طيلة عقود، فقد انطلق عملها بفنانين كبار أعطوا الكثير للفن الدرامي في المغرب، والذين لا يمكن امتلاك صورة متكاملة عن هذا الفن في بلادنا من دونهم، مثل حبيبة المذكوري وأمينة رشيد وعبد الرزاق حكم ومحمد حماد الأزرق وحمادي التونسي وحميدو بن مسعود وغيرهم من الأسماء المعروفة؛ كما كان رئيس الفرقة يعززها باستمرار بأجود العناصر التي تلمع في الساحة المسرحية المغربية أو خلال تداريب المعمورة مثل حمادي عمور والعربي الدغمي ومحمد حسن الجندي وزكي الهواري. ولم تقتصر إنتاجات (فرقة التمثيل العربي) على الأعمال التي قدمتها وراء الميكروفون، ولكنها كانت رائدةثم حاضرة باستمرار على خشبة المسرح، سواء قبل تأسيس (فرقة المعمورة) في الرباطو(فرقة المسرح البلدي) في الدار البيضاء أو خلال فترات خفوت صوتهذه الفرق الكبيرة.
وختم الأستاذ بناني مداخلته بجرد عدد من النماذج المسرحية التي قدمتها هذه الفرقة على خشبات المسرح المغربي.
واجتبى الدكتور عبد الواحد بن ياسر موضوع: أسئلة مئوية المسرح المغربي قراءة تشخيصية، عنوانا لمداخلته التي تمحورت حول سؤال الوجود أو ميتافيزيقا البحث عن الأصول، وسؤال البدايات، متوقفا عن روافد المرح المغربي، والجمعيات المسرحية الأولى، والمنجز الدرامي الأول، وآفاق ما بعد الاستقلال، وسؤال التكوين والثقافة المسرحيين، وسؤال حفظ الذاكرة والحق في الأرشيف. ويقتضي الحديث عن ” مئوية ” المسرح المغربي كما وسمها منظمو هذه الندوة، المكاشفة الصريحة و الواقعية، بدل تمجيد ماض مسرحي جميل وأمثلته، والتباكي عليه حينا، أو نفيه و اجتثاثه، كما نجد ذلك أحيانا أخرى عند فئة من الأجيال الجديدة. لكن هذه المكاشفة لا تستقيم دون الرجوع إلى المنجز المسرحي ذاته، خلال ما سمي بالمئوية، وفحصه بل، وتشريحه في كافة مستوياته الإبداعية و التنظيمية و اللوجيستيكية، و هذا ما لا يمكن استيفاء جانب واحد من جوانبه، إذ يحول دون ذلك شساعة الموضوع وطابعه الإشكالي الشائك، وغياب المادة الوثائقية والمصدرية بخصوص تاريخ التجربة،و النصوص والمونوغرافيات والدراسات القطاعية و الميدانية .
لذلك، وتجنبا لكل التباس، فإنه لا يد عي ولا يطمح لتقديم تاريخ أو إحاطة مهما كانت محدوديتها ببعض جوانب هذه التجربة، و إنما حاول الوقوف على بعض الأسئلة الملحة التي لا يمكن في رأينه تفاديها أو تنحيتها في أي مقاربة استرجاعية تقويمية جادة لما راكمته التجربة المسرحية المغربية خلال عقود من الزمن .
إن القول بعدم وجود تعبير درامي في ثقافتنا المغربية وفي تراثنا العربي الكلاسيكي لا ينبغي أن يشكل مركب نقص بالنسبة لنا، ولا مرادفا لدونية إنتاجنا الثقافي، أو لقلة قيمته. فمجتمعاتنا العربية ومنها المغربي لم تكن في حاجة للتعبير الدرامي، لأنها كانت تعيش حياتها الجمعية في شكل تمسرح دائم. كما أن الحديث عما سمي ب ” الأشكال ما قبل المسرحية”، فضلا عن خلفيته المسكونة بنزعة تطورية عتيقة، تقوم على حكم قيمة معياري، يصنف أشكال الفرجة الشعبية في ضوء “ما بعدها” أي المسرح، باعتباره ظاهرة كونية وتعبيرا نموذجيا بالنسبة لكل الثقافات والمجتمعات. كما أنها تبقى صيغة ملتبسة غامضة تتضمن نوعا من المصادرة على المطلوب.
غير أن هذا الجيشان الذي عاشه المسرح الجامعي من قبل، بدأ في الخفوت خلال السنوات الأخيرة، و تراجعت جدوته وجودته. ذلك أنه ارتبط دائما و منذ ظهوره بجهود فردية و بأشخاص بأعيانهم، منذ تجاربه المحدودة و التلقائية خلال ستينيات القرن الماضي على يد الفقيد فريد بنمبارك ، إلى أحدث المبادرات في السنوات الأخيرة. و لم يكن يوما مرتبطا بمخطط جامعي واضح و دقيق، أو يستهدف غايات محددة، و هكذا تحولت مهرجانات المسرح الجامعي إلى تظاهرات سنوية باهتة، لا يحضرها حتى المعنيون بها ، من طلبة و أساتذة، وأحيانا حتى القائمون عليها أنفسهم. ينضاف إلى ذلك دخول الجامعة بصفة عامة في دوامة الإصلاحات و إصلاح الإصلاحات و تداعياتها العقيمة، و التي استنزفت قوى وطاقة دفعات من الطلاب، و أبعدتهم و حالت بينهم و بين طموحات الخلق والإبداع. يرتبط سؤال الثقافة المسرحية بسؤال النقد و غيابه أو ضعفه في أحسن الأحوال، في مقابل تضخم الإنشاءات النظرية و البيانات والسجالات العقيمة .
وقليلة هي الاستثناءات التي حاولت أن تزاوج بين الاشتغال النظري والممارسة النقدية. و لم يحدث في ساحة المسرح العربي المعاصر من السجالات و البيانات و البيانات المضادة مثل ما حصل في ساحة المسرح المغربي، وما تزال الأصداء المتأخرة والمستعادة لتلك الإنشاءات السبعينية والثمانينية المتقادمة قائمة حتى اليوم، على الرغم من نفاذ صلاحيتها منذ زمن طويل.
فالمسرح المغربي اليوم، في حاجة لبحوث و اجتهادات فكرية و نظرية و جمالية تنصب على منجزه وتراكمه، و على ما يمكن أن يساهم في تطوير آفاق عطاءاته الممكنة. و ر ب عمل إبداعي جيد و متكامل أفضل من ألف بيان سجالي عقيم، و ثرثرة لفظية ممجوجة، أو دراسة نقدية تحليلية لعمل مسرحي في كل مستوياته أو بعضها ) نص / عرض / تلقي )، من عشرات التلخيصات والاقتباسات النظرية و لإنشاءات العامة.
قبل أن يختم مداخلته بضرورة حفظ أرشيف وذاكرة المسرح المغربي التي بقيت في أغلبها على الدوام شفاهية وغير موثقة.
أما مداخلة الأستاذ مسعاية فتمحورت حول التكوين والحركة المسرحية في المغرب، التي قسمها إلى ثلاثة مراحل، حيث لم يقتنع بأن هناك تكوينا حقيقيا في المرحلة الأولى الممتدة منذ 1913 حتى الأربعينيات من القرن الماضي، مستندا إلى ذخائر خزاني الأستاذين عبد الله شقرون، والطيب الصديقي،واتسمت العروض المسرحية بالبساطة، كما أن جل النصوص كانت مقتبسة أو مترجمة، قبل كتابة بعض النصوص المغربية بالعربية الفصحى.. وكانت هناك كذلك حركة نقدية بسيطة واكبت هذه الأعمال. إضافة إلى تنظيم مباريات في التأليف المسرحي والترجمة. وتمتد المرحلة الثانية من بداية الخمسينات حتى الثمانينات، وهي المرحلة التي اتسمت بالحرفية في التكوين المسرحي، وساهمت في إبراز أولى نواة للمسرح المغربي على الشاكلة الغربية. وفي بداية الخمسينيات قررت وزارة الشبيبة والرياضة إقامة ورشات تدريبية للمسرح من تأطير اندري فوازان، وعبد الله شقرون، وهو ما تولدت عنه فرقة المعمورة. علاوة على مسرح الهواة الذي شكل مدرسة في التكوين، والمعاهد البلدية التي كانت لها اليد الطولى في صقل موهبة العديد ن الفنانين والمرحلة الثالثة هي المرحلة التي اتسمت بالبعد الأكاديمي في التكوين مع إنشاء المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي.
وقد أعقبت الجلسة أسئلة ومطارحات الحضور بدأت بالدكتور مصطفى الرمضاني الذي ذكر بانجاز رضوان حدادو، منتقدا المركزية والتمركز في البحث دون الالتفات إلى الهوامش التي تنتج أعمالا جادة في مختلف الجهات.
وتناول الأستاذ لعزيز فن البساط في المسرح المغربي، مبرزا أهميته، وكذا التضحيات التي قدمها المسرحيون المغاربة الملتحمون بالحركة الوطنية.
أما حسن عطية فطرح سؤالا حول تاريخ بداية الكتابة والتأليف المسرحي مذكرا بنص صلاح الدين الأيوبي؟
وذكر فاضل الجاف بتجربته في تدريس مايخولد بالمعهد العالي للمسرح في المغرب. كما ذكر ب ضرورة تأسيس نقابة لمسرح الهواة كما هو الحال بالنسبة إلى بعض الدول الغربية.
أما سالم كويندي فذكر بأن هناك بنايات تعود إلى فترة ما قبل التاريخ. كما أن هناك ساحات عريقة في مختلف المدن المغربية. مذكرا بأن المسرحيين المغربة المؤسسين كانوا فقهاء، وفي الآن نفسه مناضلين سياسيين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة. كما كان المسجد خلفية للمسرح المغربي.
وحث الأستاذ عثمان بدري الحاج على ضرورة التقريب بين اللهجات العربية عبر ورشات كتابية جماعية، والاهتمام بالدراسات التوثيقية للتراث العربي المسرحي من المحيط إلى الخليج.
بينما طرح الأستاذ أحمد جموسي إشكالية التمثلات الفكرية والسياسية التي واكبت السياق العام الذي ولد فيه المسرح المغربي.
واختتم الأستاذ خالد أمين المداخلات بضرورة العودة إلى كتابات الدكتور حسن المنيعي للتوثيق للتأليف المسرحي، وكذا التذكير بدور المدارس الوطنية الحرة في التكوين المسرحي.
وانطلقت الجلسة الثنية بمداخلة الأستاذ مصطفى القباج، الذي اختار عنونة مداخلته ب: “من التَّأْريخ للمسرح المغربي إلى التحليل الفلسفي التاريخي للمسار” مستهلا إياها بتوضيح الفرق بين التأريخ، والتحليل الفلسفي التاريخي، درءاً على حد تعبيره لأي سوء فهم يُمكن أن يوحي به عنوان هذه الورقة، ذلك أن المقصود من التأريخ (Histographie) هو الرّصد الزمني الدقيق والإجمالي الذي عرفته صيرورة تطور ظاهرة أو فعالية مّا من خلال أحداث تعاقبت على مدى زمني. أما المقصود بالتحليل الفلسفي التاريخي فهو الجهد العقلي الذي يبذله الباحث في مجال تاريخ فكر مّا، أو مؤسسة مّا بهدف التفسير أو التّأويل لفهم الأسباب التي وراء اتخاذ صيرورة مّا لمسار معيّن، واستخلاص ما إذا كان المسار تطوّرياً أو تراجعياً، مع ضبطٍ لفترة القوة أو الضعف التي تخللت المسار.
اعتماداً على هذا الضبط المفاهيمي، فإن هذه الورقة قامت في مرحلة أولى برصد إجمالي وغير شامل لأهم الأحداث التي عرفها تاريخ المسرح المغربي منذ نشأته التي يرى البعض أن منطلقها هو تشييد مسرح (سيرفانتيس) بطنجة سنة 1913 إلى اليوم، مع الحرص على أن يكون مسرد الأحداث مُرتّب ترتيباً تصاعدياً. وقد اعتمد في هذا الرصد على قراءة لمُجمل ما كتبه الأكاديميون والنقاد والإعلاميون بخصوص المسار الزمني للمسرح المغربي، مع ملاحظة أولية، وهي أن معظم الباحثين الذين أمكنه الاطلاع على إنتاجهم يشتكون من قضية محورية ربما قد تُعيب الرصد التأريخي، وهي انعدام التوثيق المسرحي الدقيق، أو ما أسماه البعض “أزمة التوثيق المسرحي”، لأنه بدون توثيق دقيق وشامل يصعب التيقّن من مصداقية الأحداث التي قد تضفي على هذه الأحداث طابع التخمين أو الاستقراء غير التام أو الإخبار الشفوي، فلا ترقى إلى أن تكون أساس إثبات أو نفي لوقوعها من عدمه، واستحالة تحديد مرتبتها في الصيرورة الزمنية. مقدما نموذجا حيا بالفراغ التوثيقي لاقبار مجموعة مسرح المعمورة سنة 1974، والمسرح العمالي، والمسرح البلدي…
وبعد أن عرج على أهم اللحظات التاريخية من المسرح المغربي منذ بداياته، وقف عند مسرح الهوة الذي يمثل بالنسبة إليه الوجه المشرق لإبداعات واجتهادات ذات توجه تجريبي ذي نفس تجديدي ولمسة استيتيكية، تتبنى التيارات المسرحية الطلائعية في العالم، وإنتاج صيغ دينامية في الإخراج والتمثيل مع تبسيط لتقنيات الخشبة وتكسير الجدار الرابع للتفاعل الحي مع المتلقين. وقد استطاع هذا المسرح الهاوي التحرر من سلطة النموذج الكلاسيكي. بذلك انفتح مسرح الهواة على المسرح التغريبي الملحمي لـ “برتولوبريشت” ومسرح “انتونان آرطو” و”المسرح التسجيلي ” و”مسرح العبث”. وفي مرحلة لاحقة شرعت الفرق الهاوية على يد كتاب النصوص المسرحية من الجامعيين والمثقفين، في إبداع اتجاهات مسرحية نظروا لها بعمق، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر “الاحتفالية” لعبد الكريم رشيد، و”المسرح الفقير” لسعد الله عبد المجيد، ومسرح “المرحلة” لحوري الحسين، ومسرح “النقد والشهادة” لمحمد مسكين، و”المسرح الجدلي” لعبد القادر عبابو، ومسرح “التكامل” لمحمد خشلة وحميد دادس… هذا التنوع في الاجتهادات بوأ المسرح الهاوي مكانة متميزة.
وابتداء من سنة 1962 سيتم تكريس الاحتراف المسرحي بتدشين “المسرح الوطني محمد الخامس”. وفي سنة 1965 عُين الطيب الصديقي مديراً للمسرح البلدي بالدار البيضاء، وقد استمر في هذه المهمة إلى سنة 1977، بعد أن سبق له أن أدار فرقة المسرح العمالي تحت رعاية الاتحاد المغربي للشغل. لقد أبان الطيب الصديقي عن فهم للمسرح الطلائعي، واشتغل باقتدار بحق على الأشكال ما قبل المسرحية وعلى النصوص الأدبية التراثية وكلام الملحون والملاحم الوطنية، وبذلك احتل هذا المؤلف والمخرج والفنان التشكيلي منزلة متميزة في المسرح مغربياً ومغاربياً وعربياً ودولياً، واعترف له كل الباحثين بقدرته التجديدية. واستمر القباج في السرد التاريخي للمسرح المغربي حتى سنوات الألفية الثالثة التي نعيشها اليوم.
وقد خلص إلى ظن بعض المسرحيين المغاربة أن قرناً من الممارسة الفنية مدى زمني يكفي لإنضاج هذه الممارسة، لذا، وفي اعتقاده أن تاريخ المسرح المغربي ما زال مفتوحا، ولم تتحقق له بعد شروط الاختمار والنضج. إن اللهاث الذي يبدو عند الممارسين للفعل المسرحي عندنا، مع اختلاف أغراضهم ورؤاهم الاجتماعية والسياسية، علامة استنزاف لطاقة الإبداع. وفي الحقيقة أن شأن المسرح هو شأن المسرحيين، ولكن هو أيضاً شأن السياسة، بمعنى أن عجز الدولة المغربية، سواء في الحقبة الاستعمارية أو فيما بعد الاستقلال، عن صياغة إستراتيجية ثقافية عامة واستراتيجيات قطاعية، ومن بينها قطاع المسرح لن تسعف المسرح ليحقق نضجه الكامل.كما أن الدولة في الرّاهن المغربي تسيء فهم منطق التاريخ، تاريخ الأفكار والمؤسسات، فهي تعتقد أن إجراءات الدعم المادي كافية لأن تؤسس مسرحاً بالكم والكيف، وأنها إجراءات تكفل النضج الفكري والفني.
أما مداخلة الدكتور يونس لوليدي فقد تمحورت حول ما بعد الحداثة في المسرح المغربي، مركزا على أن الحديث عن تجارب مسرحية جديدة عادة ما يجعلنا نجمع بين ما بعد الحداثة وما بعد الدراما كأن الأمر يتعلق بمترادفين٬ غير أن ما بعد الحداثة تهم العروض عموما٬ وما بعد الدراما تهم النصوص على الخصوص، وطارحا بعض الأسئلة من بينها:
هل ظهرت في المجتمع المغربي نفس الشروط السياسية والفلسفية والاجتماعية والتكنولوجية التي أدت ٳلى ظهور ما بعد الحداثة في المجتمعات الغربية حتى نتحدث عن ما بعد الحداثة في مجتمعنا ومسرحنا؟
هل استوعب مسرحيونا فلسفة ما بعد الحداثة حتى يستطيعوا نقلها ٳلى المسرح٬ علما أن المسرحيين الغربيين أنفسهم لم يستوعبوا هذه الفلسفة وظلت تنظيرات ليوتار وفوكو ودريدا وغيرهم في واد والمسرح في واد آخر؟
هل أنتج مسرحنا المغربي حداثة حتى نمر ٳلى مرحلة ما بعد الحداثة؟ علما أننا لا زلنا نعاني من غياب البنيات التحتية وغياب التكوين المسرحي الأكاديمي.
هل يعلم المسرحيون المغاربة الذين يتوجهون ٳلى ما بعد الحداثة أن هذا التوجه بدأ طريقه نحو الانقراض في المسرح الغربي؟ فلماذا نبدأ دائما من حيث انتهى الآخرون؟
تنطلق ما بعد الحداثة من صيغ تقريرية يتجلى أهمها في: موت المؤلف٬وموت نص المؤلف٬واندثار النص الدرامي وتشظيه٬ ونزيف المعنى الناتج عن النصوص٬وغياب أغلب عناصر النص مثل الخطاب والتواصل والحكاية٬وتدمير الموضوع…
وهذا لا يعني اعلاء لقيمة النص المسرحي وحده، ويقلل من قيمة العرض داخل أية تجربة مسرحية حتى ولو كانت ما بعد حداثية، بل تأكيد فقط على أن النص ليس ذريعة، وبأن “قراءة جيدة أحسن من عرض رديء”، وبأن “العرض الذي لا يؤثر على روحي، عرض لا جدوى منه”.
وبعد نبشه في الحداثة وما بعد الحداثة خلص إلى أن ٳن الهدف من ٳثارة النقط السابقة هو أن المسرح ما بعد الحداثي‒ سواء كان واعيا أم غير واع بذلك‒ قد ورث من الكلاسيكية والحداثة أكثر مما يعتقد٬ وهو أمر لا بد أن يعيه أيضا المسرحيون المغاربة الذي يصنفون أنفسهم ما بعد حداثيين٬ فالٳرث الكلاسيكي والحداثي موجود في هذه الممارسة ما بعد الحداثية٬ وبالتالي لا بد من استيعاب الكلاسيكية والحداثة قبل أن نزعم القدرة على تجاوزهما وتدميرهما٬ فلا يمكن أن نتجاوز أو أن ندمر شيئا لا نعرفه أصلا.
ٳن أنضج طريقة لتعامل ما بعد الحداثة مع الٳرث الكلاسيكي هي ما يذهب ٳليهAntoine Vitez حين يرى أن الٳخراج ما بعد الحداثي للنصوص الكلاسيكية ليس ٳنكارا كليا للتقليد المسرحي٬وٳنما هو ٳعادة خلق لهذا التقليد دون الخضوع له٬ مع خلق مسافة بيننا وبينه. “يتعلق الأمر بٳعادة خلق التقليد دون الخضوع لسيطرته٬ فعندما نعيد ابتكار التقليد فٳننا‒ في الوقت نفسه ‒ نقدمه بطريقة نقدية٬ حيث نتلقى العرف دون أن نؤمن به.”
وبعد توقفه عند بعض التجارب المسرحية المغربية المحسوبة على ما بعد الحداثة، كما هو الحال بالنسبة إلى فوزي بنسعيدي، وبوسلهام الضعيف، وخاصة تجربة يوسف الريحاني التي توقف عندها مليا خلص إلى أننا يمكن أن نلاحظ أن ما بعد الحداثة في المسرح تنقصها الصرامة التنظيرية٬ ويغيب عنها المصطلح الدقيق٬ مما يصعب معه القول بأن ما بعد الحداثة هي مرحلة تاريخية محددة، أوهي نوع جمالي محدد. ٳنها بالأحرى أسلوب لعب٬ أو موقف ٳنتاج وتلقي٬ أو طريقة “معاصرة” لممارسة المسرح. لذلك أثناء الحديث عن ما بعد الحداثة في المسرح لا يمكن حصر إلا بعض الملامح العامة التي ليست لها قيمة تنظيرية كبيرة٬ والتي تهم الٳخراج أكثر من أي شيء آخر.
وهكذا فٳن ما لاحظاه من ملامح ما بعد الحداثة في بعض التجارب المسرحية المغربية يجمع بين المتناقضات٬ ولا ينتمي ٳلى اتجاه محدد٬ ويعتمد الكولاج وتنوع التقنيات والأساليب من دون محور أساسي أو مركزي. فتبدوا هذه الفرجات وكأنها تحاول التخلص من أي تقليد أو أي ٳرث مسرحي. كما يبدو أن المخرجين والممثلين المغاربة الذين تحدثنا عنهم يسعون ٳلى تقديم أنفسهم أكثر مما يسعون ٳلى تقديم شخصيات أو أحداث٬ كما أن فرجاتهم تفتقر ٳلى التراتبية بين المكونات وٳلى المنطقية في الأحداث وٳلى المرجعية. مما يجعلنا أحيانا أمام عناصر تشكل خطرا على باقي العناصر الأخرى المكونة للفرجة.
ويحق لنا أن نتساءل في النهاية أليست ما بعد الحداثة في المسرح المغربي مجرد تجارب فردية قائمة على الفهم الشخصي لما بعد الحداثة٬ بعيدا عن استيعاب البعد الفلسفي لما بعد الحداثة الذي نظر له ليوتار ودريدا وفي غياب شروط نشأة ما بعد الحداثة في المجتمع المغربي؟ أليست ما بعد الحداثة في مسرحنا المغربي مجرد ترف تقني أكثر منها حاجة جمالية أو فكرية؟
واختار عز الدين بو النيت الحديث عن موضوع: من تأصيل الوعي بالمسرح إلى توطين الممارسة المسرحية تساؤلات حول آفاق المهنة.”وتوزعت عناوين هذه المداخلة بين رحلة المسرح المغربي من الطليعة الثقافية غلى المهنية، وبين المسرح المغربي والبحث عن أفق مهني للممارسة المسرحية، وأقر في بداية هذه المداخلة بصعوبة تركيز مجرى الممارسة المسرحية المغربية على مدى قرن من الزمن في بضع صفحات من أجل بلوغ هذه الغاية، يلزمنا القيام بعملية انتقاء حاسمة، وضغط المعطيات إلى أقص حد.
ومن جانب آخر، يعلم الجميع أن التحقيب التاريخي، أو بالأحرى تسمية الحقب التاريخية، ما هي إلا نوع من الاستعارة )بالمعنى البلاغي للكلمة( الرامية إلى إضفاء قدر من التماسك على عملية ا لانتقاء والترتيب، تتيح معقولية أكبر لفوض ى التتابعات الزمنية المختلفة الاتجاهات، وتضفي معنى على سلاسل الأحداث التي يتم بناؤها. وغالبا ما تخذل هذه العملية المسعى الحثيث للوصول إلى المعنى الشامل للتاريخ، على فرض وجود مثل هذا المعنى.
وفي الأحوال كلها، يحتاج المسرح المغربي اليوم إلى نظرة تجميعية تحاول إضاءة الخيوط الرابطة بين مختلف جوانبه ومراحله ومحطاته. ويمكن لهذا الإطار الزمني الممتد خلال مائة سنة أن يتيح مثل هذه النظرة، وأن يساعد على إعادة تحديد موقع المسرح وإسهاماته في هيكلة الثقافة المغربية الحديثة والمعاصرة.
لكننا نعلم أن المسرح من حيث إنه ينتمي إلى نسق الثقافة العالمة ظاهرة متلاشية، عكس كثير من الظواهر الأخرى المنتمية إلى هذا النسق، والتي تظل محافظة على استمرارها إما في شكل وثائق أو في شكل آثار فنية محمولة على دعائم مادية )كما هو الأمر في الأدب والنحت والرسم(. .
تؤول هذه المقارنة إلى القول إن الكلام عن المسرح، هو بالأحرى كلام عن الخطابات المحيطة به أكثر مما هو كلام عن الممارسة المسرحية الفعلية. وتزداد الأهمية المنهجية لهذه الملاحظة عندما يتعلق الأمر، خاصة، بوضع شبيه بوضع المسرح في الثقافة المغربية، حيث لا توجد في الواقع مسارح قائمة بذاتها، تشكل نوعا من الاستمرار المادي لأثر الأعمال المسرحية حتى بعد تلاشيها، وسندا للوجود التاريخي المستقل للظاهرة المسرحية، وتمكننا من الاحتكاك بالذاكرة المادية للممارسة المسرحية كما لو كانت ما تزال مسترسلة وحية .
والسؤال الذي ركز عليه، وهو يقف بشكل إرادي وانتقائي على عتبة المائة الثانية من وجود المسرح على أرض المغرب، هو: كيف يمكن صياغة خلاصة دالة لحصيلة قرن من الحضور المسرحي في المغرب؟ وأي أفق لبداية المائة الثانية؟ لذلك بأر في هذا البحث على منعطف المهننة والتنظيم، منطلقا من التحول الرئيس الذي أدى إلى انتقال عميق في الوعي بإشكالية الممارسة المسرحية في نسقنا الثقافي، من التنظير والبحث في ا لأصول والجذور والنماذج الملائمة إلى التأريخ ومحاولة فهم المسرح كممارسة، ووضع اليد على عوائقها الموضوعية.
وبوب مداخلته في ثلاثة محاور :
1/ رحلة المسرح المغربي من الطليعة الثقافية إلى المهنية
2/ المسرح المغربي والبحث عن أفق مهني للممارسة المسرحية
3/ التفكير في المسرح وتحولات الوعي بالممارسة:
وخلص الباحث في نهاية هذه المداخلة إلى أن التطورات التي تعرفها الممارسة المسرحية في اتجاه المهنية، تحتم على الفاعل الأكاديمي والناقد المسرحي النشيط، أن يعيدا من جهتهما تحديد نوعية العلاقة التي ينبغي أن تربط بين الممارسة والمواكبة النقدية والبحث العلمي. والساحة المسرحية اليوم في حاجة إلى مواكبة قادرة على استيعاب تحولات حقل الفرجة المتغيرة حدودها بشكل مستمر. ويتعين على التتبع النقدي اليقظ أن يعمل على إدماج المسرح بأبعاده الجديدة في الساحة الثقافية الفرجوية، وأن يدمج عناصر الفرجة الجديدة في حقل المسرح، تمهيدا لإنشاء مباحث علمية وتكوينية جديدة تشمل الاهتمام بمفاهيم الوساطة الثقافة والهندسة الثقافة والتخطيط الثقافي كمفاهيم أضحى من الضروري إعمالها بفعالية لمواكبة كل سياسة ثقافية مستقبلية.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت